سورة آل عمران - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


{أَفَغَيْرَ دِينِ الله} دخلت همزة الإنكار على الفاء العاطفة جملة على جملة، والمعنى فأولئك هم الفاسقون فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما. ويجوز أن يعطف على محذوف تقديره: أيتولون فغير دين الله يبغون. وقدم المفعول وهو غير دين الله على فعله لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل {يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات} الملائكة {والأرض} الإنس والجن {طَوْعاً} بالنظر في الأدلة والإنصاف من نفسه {وَكَرْهًا} بالسيف أو بمعاينة العذاب كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والإشفاء على الموت، فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده. وانتصب {طَوْعًا وَكَرْهًا} على الحال أي طائعين ومكرهين {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} فيجازيكم على الأعمال {يبغون} و{يرجعون} بالياء فيهما: حفص، وبالتاء في الثاني وفتح الجيم أبو عمرو لأن الباغين هم المتولون والراجعون جميع الناس، وبالتاء فيهما وفتح الجيم: غيرهما.
{قُلْ ءَامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخبر عن نفسه وعمن معه بالإيمان فلذا وحد الضمير في {قل} وجمع في {آمنا} أو أمر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك إجلالاً من الله لقدر نبيه. وعدي {أنزل} هنا بحرف الاستعلاء وفي البقرة بحرف الانتهاء لوجود المعنيين، إذ الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسول، فجاء تارة بأحد المعنيين وأخرى بالآخر. وقال صاحب اللباب: الخطاب في البقرة للأمة لقوله {قُولُواْ} فلم يصح إلا {إلى} لأن الكتب منتهية إلى الأنبياء وإلى أمتهم جميعاً، وهنا قال: {قل} وهو خطاب للنبي عليه السلام دون أمته فكان اللائق به {علي} لأن الكتب منزلة عليه لا شركة للأمة فيه، وفيه نظر لقوله تعالى: {وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ بالذى أُنزِلَ عَلَى الذين ءَامَنُواْ} [آل عمران: 72] {وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط} أولاد يعقوب وكان فيهم أنبياء {وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى والنبيون} كرر في البقرة و{ما أوتي} ولم يكرر هنا لتقدم ذكر الإيتاء حيث قال: {لما آتيتكم} {مّن رَّبّهِمُ} من عند ربهم {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ} في الإيمان كما فعلت اليهود والنصارى {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} موحدون مخلصون أنفسنا له لا نجعل له شريكاً في عبادتنا {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام} يعني التوحيد وإسلام الوجه لله أو غير دين محمد عليه السلام {دِينًا} تمييز {فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخرة مِنَ الخاسرين} من الذين وقعوا في الخسران ونزل في رهط أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة.
{كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم} والواو في {وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول حَقٌّ} للحال و{قد} مضمرة أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول أي محمداً حق، أو للعطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأن معناه بعد أن آمنوا {وَجَاءهُمُ البينات} أي الشواهد كالقرآن وسائر المعجزات {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} أي ما داموا مختارين الكفر، أو لا يهديهم طريق الجنة إذا ماتوا كفاراً {أولئك} مبتدأ {جَزَآؤُهُمْ} مبتدأ ثانٍ خبره {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} وهما خبر {أولئك} أو {جزاؤهم} بدل الاشتمال من {أولئك} {والملائكة والناس أَجْمَعِينَ خالدين} حال من الهاء والميم في {عليهم} {فِيهَا} في اللعنة {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك} الكفر العظيم والارتداد {وَأَصْلَحُواْ} ما أفسدوا أو دخلوا في الصلاح {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} لكفرهم {رَّحِيمٌ} بهم.
ونزل في اليهود {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} بعيسى والإنجيل {بَعْدَ إيمانهم} بموسى والتوراة {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، أو كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما كانوا به مؤمنين قبل مبعثه ثم ازدادوا كفراً بإصرارهم على ذلك وطعنهم فيه في كل وقت أو نزل في الذين ارتدوا ولحقوا بمكة. وازديادهم الكفر أن قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} أي إيمانهم عند البأس لأنهم لا يتوبون إلا عند الموت قال الله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون * إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْءُ الأرض} الفاء في {فلن يقبل} يؤذن بأن الكلام بني على الشرط والجزاء، وأن بسبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وترك الفاء فيما تقدم يشعر بأن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبيب {ذَهَبًا} تمييز {وَلَوِ افتدى بِهِ} أي فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً قال عليه السلام: «يقال للكافر يوم القيامة لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم. فيقال له: لقد سئلت أيسر من ذلك» قيل: الواو لتأكيد النفي {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مؤلم {وَمَا لَهُم مّن ناصرين} معينين دافعين للعذاب.
{لَن تَنَالُواْ البر} لن تبلغوا حقيقة البر أو لن تكونوا أبراراً أو لن تنالوا بر الله وهو ثوابه {حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثروها. وعن الحسن: كل من تصدق ابتغاء وجه الله بما يحبه ولو تمرة فهو داخل في هذه الآية. قال الواسطي: الوصول إلى البر بإنفاق بعض المحاب وإلى الرب بالتخلي عن الكونين، وقال أبو بكر الوراق: لن تناولوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم.
والحاصل أنه لا وصول إلى المطلوب إلا بإخراج المحبوب. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يشتري أعدال السكر ويتصدق بها فقيل له: لم لا تتصدق بثمنها؟ قال: لأن السكر أحب إليّ فأردت أن أنفق مما أحب. {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَئ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} أي هو عليكم بكل شيء تنفقونه فيجازيكم بحسبه. و{من} الأولى للتبعيض لقراءة عبد الله {حتى تنفقوا بعض ما تحبون} والثانية للتبيين أي من أي شيء كان الإنفاق طيب تحبونه أو خبيث تكرهونه. ولما قالت اليهود للنبي عليه السلام: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها فقال عليه السلام: «كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحله» فقالت اليهود: إنها لم تزل محرمة في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام نزل تكذيباً لهم.
{كُلُّ الطعام} أي المطعومات التي فيها النزاع فإن منها ما هو حرام قبل ذلك كالميتة والدم {كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل} أي حلالاً وهو مصدر. يقال حل الشيء حلاً ولذا استوى في صفة المذكر والمؤنث والواحد والجمع قال الله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} [الممتحنة: 10] {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل} أي يعقوب {على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} وبالتخفيف مكي وبصري وهو لحوم الإبل وألبانها، وكانا أحب الطعام إليه. والمعنى أن المطاعم كلها لم تزل حلاً لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة سوى ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما نزلت التوراة على موسى حرم عليهم فيها لحوم الإبل وألبانها لتحريم إسرائيل ذلك على نفسه {قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صادقين} أمر بأن يحاجهم بكتابهم ويبكتهم بما هو ناطق به من أن تحريم ماحرم عليهم تحريم حادث سبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدعونه، فلم يجرؤوا على إخراج التوراة وبهتوا. وفيه دليل بيّن على صدق النبي عليه السلام وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} بزعمه أن ذلك كان محرماً في ملة إبراهيم ونوح عليهما السلام {مِن بَعْدِ ذلك} من بعدما لزمهم من الحجة القاطعة {فأولئك هُمُ الظالمون} المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات {قُلْ صَدَقَ الله} في إخباره أنه لم يحرم وفيه تعريض بكذبهم أي ثبت أن الله تعالى صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون {فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم} وهي ملة الإسلام التي عليها محمد عليه السلام ومن آمن معه حتى تتخلصوا من اليهودية التي ورطتكم في فساد دينكم ودنياكم حيث اضطرتكم إلى تحريف كتاب الله لتسوية أغراضكم، وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلها الله لإبراهيم ولمن تبعه {حَنِيفاً} حال من إبراهيم أي مائلاً من الأديان الباطلة {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين}.
ولما قالت اليهود للمسلمين: قبلتنا قبل قبلتكم نزل {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} والواضع هو الله عز وجل. ومعنى وضع الله بيتاً للناس أنه جعله متعبداً لهم فكأنه قال: إن أول متعبد للناس الكعبة وفي الحديث: «إن المسجد الحرام وضع قبل بيت المقدس بأربعين سنة» قيل: أول من بناه إبراهيم. وقيل: هو أول بيت حج بعد الطوفان. وقيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض. وقيل: هو أول بيت بناه آدم عليه السلام في الأرض. وقوله {وضع للناس} في موضع جر صفة ل {بيت} والخبر {لَلَّذِى بِبَكَّةَ} أي للبيت الذي ببكة وهي علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان فيه. وقيل: مكة البلد وبكة موضع المسجد. وقيل: اشتقاقها من بكه إذا زحمه لازدحام الناس فيها، أو لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها لم يقصدها جبار إلا قصمه الله. {مُبَارَكاً} كثير الخير لما يحصل للحجاج والمعتمرين من الثواب وتكفير السيئات {وَهُدًى للعالمين} لأنه قبلتهم ومتعبدهم، و{مباركاً وهدى} حالان من الضمير في وضع {فِيهِ ءايات بينات} علامات واضحات لا تلتبس على أحد {مَّقَامُ إبراهيم} عطف بيان لقوله {آيات بينات}. وصح بيان الجماعة بالواحد لأنه وحده بمنزلة آيات كثيرة لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة الله تعالى، ونبوة إبراهيم عليه السلام من تأثير قدمه في حجر صلد، أو لاشتماله على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة على أن {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً} عطف بيان ل {آيات} وإن كان جملة ابتدائية أو شرطية من حيث المعنى لأنه يدل على أمن داخله فكأنه قيل: فيه آيات بينات مقام لإبراهيم وأمن داخله، والاثنان في معنى الجمع. ويجوز أن يذكر هاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله وكثير سواهما نحو انمحاق الأحجار مع كثرة الرماة، وامتناع الطير من العلو عليه وغير ذلك، ونحوه في طي الذكر قوله عليه السلام: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وقرة عيني في الصلاة» فقرة عيني ليس من الثلاث بل هو ابتداء كلام لأنها ليست من الدنيا، والثالث مطوي وكأنه عليه السلام ترك ذكر الثالث تنبيهاً على أنه لم يكن من شأنه أن يذكر شيئاً من الدنيا فذكر شيئاً هو من الدين. وقيل في سبب هذا الأثر أنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضعف إبراهيم عليه السلام عن رفع الحجارة قام على هذا الحجر فغاصت فيه قدماه.
وقيل: إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة فقالت له امرأة إسماعيل عليه السلام: إِنزل حتى تغسل رأسك فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر فوضعته على شقه الأيمن فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه ثم حولته إلى شقه الأيسر حتى غسلت الشق الآخر فبقي أثر قدميه عليه، وأمان من دخله بدعوة إبراهيم عليه السلام {رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا} [إبراهيم: 35] وكان الرجل لو جنى كل جناية ثم التجأ إلى الحرم لم يطلب. وعن عمر رضي الله عنه: لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن لزمه القتل في الحل بقود أو ردة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرض له إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج. وقيل: آمنا من النار لقوله عليه السلام من: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا من النار» وعنه عليه السلام: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة» وهما مقبرتا مكة والمدينة. وعنه عليه السلام: «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام» {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} أي استقر له عليهم فرض الحج {حج البيت}: كوفي غير أبي بكر وهو اسم وبالفتح مصدر. وقيل: هما لغتان في مصدر حج {منْ} في موضع جر على أنه بدل البعض من الكل {استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} فسرها النبي عليه السلام بالزاد والراحلة. والضمير في {إليه} للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيل إليه. ولما نزل قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت}. جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان كلهم فخطبهم فقال: «إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا» فآمنت به ملة واحدة وهم المسلمون، وكفرت به خمس ملل قالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه فنزل {وَمَن كَفَرَ} أي جحد فرضية الحج وهو قول ابن عباس والحسن وعطاء، ويجوز أن يكون من الكفران أي ومن لم يشكر ما أنعمت عليه من صحة الجسم وسعة الرزق ولم يحج {فإنّ اللّه غنيٌّ عن العالمين} مستغنٍ عنهم وعن طاعتهم. وفي هذه الآية أنواع من التأكيد والتشديد: منها اللام و{على} أي أنه حق واجب لله في رقاب الناس، ومنها الإبدال ففيه تثنية للمراد وتكرير له، ولأن الإيضاح بعد الإبهام والتفصيل بعد الإجمال إيراد له في صورتين مختلفتين، ومنها قوله {ومن كفر} مكان ومن لم يحج تغليظاً على تاركي الحج، ومنها ذكر الاستغناء وذلك دليل على المقت والسخط، ومنها قوله {عن العالمين} وإن لم يقل عنه وما فيه من الدلالة على الاستغناء عنه ببرهان لأنه إذا استغنى عن العالمين تناوله الاستغناء لا محالة، ولأنه يدل على الاستغناء الكامل فكان أدل على عظم السخط الذي وقع عبارة عنه.


{قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بئايات الله والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} الواو للحال والمعنى لم تكفرون بآيات الله الدالة على صدق محمد عليه السلام والحال أن الله شهيد على أعمالكم فيجازيكم عليها؟! {قُلْ ياأهل الكتاب لِمَ تَصُدُّونَ} الصد المنع {عَن سَبِيلِ الله مَنْ ءامَنَ} عن دين حق علم أنه سبيل الله التي أمر بسلوكها وهو الإسلام، وكانوا يمنعون من أراد الدخول فيه بجهدهم ومحل {تَبْغُونَهَا} تطلبون لها نصب على الحال {عِوَجَا} اعوجاجاً وميلاً عن القصد والاستقامة بتغييركم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهها ونحو ذلك {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلاّ ضال مضل {وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} من الصد عن سبيله وهو وعيد شديد. ثم نهى المؤمنين عن اتباع هؤلاء الصادين عن سبيله بقوله {ياأيها الذين ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم كافرين} قيل: مرّ شاس ابن قيس اليهودي على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون، فغاظه تحدثهم وتألفهم فأمر شاباً من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث لعلهم يغضبون، وكان يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس، ففعل فتنازع القوم عند ذلك وقالوا: السلاح السلاح. فبلغ النبي عليه السلام فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين والأنصار فقال «أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم» بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بينكم؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان فألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً باكين فنزلت الآية {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} معنى الاستفهام فيه الإنكار والتعجب أي من أين يتطرق إليكم الكفر {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ ءايات الله} والحال أن آيات الله وهي القرآن المعجز تتلى عليكم على لسان الرسول غضة طرية {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} وبين أظهركم رسول الله عليه السلام ينبهكم ويعظكم ويزيح عنكم شبهكم {وَمَن يَعْتَصِم بالله} ومن يتمسك بدينه أو بكتابه، أو هو حث لهم على الالتجاء إليه في دفع شرور الكفار ومكايدهم {فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ} أرشد إلى الدين الحق، أو ومن يجعل ربه ملجأ ومفزعاً عند الشبه يحفظه عن الشبه. {ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} واجب تقواه وما يحق منها وهو القيام بالواجب والاجتناب عن المحارم. وعن عبد الله هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. أو هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم ويقوم بالقسط ولو على نفسه أو بنيه أو أبيه. وقيل: لا يتقي الله عبد حق تقاته حتى يخزن لسانه.
والتقاة من اتقى كالتؤدة من اتأد {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} ولا تكونن على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت {واعتصموا بِحَبْلِ الله} تمكسوا بالقرآن لقوله عليه السلام: «القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، من قال به صدق، ومن عمل به رشد ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم» {جَمِيعاً} حال من ضمير المخاطبين. وقيل: تمكسوا بإجماع الأمة دليله {وَلاَ تَفَرَّقُواْ} أي ولا تتفرقوا يعني ولا تفعلوا ما يكون عنه التفرق ويزول معه الاجتماع، أو ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً {واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} كانوا في الجاهلية بينهم العداوة والحروب فألف بين قلوبهم بالإسلام وقذف في قلوبهم المحبة فتحابوا وصاروا إخواناً {وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار} وكنتم مشفين على أن تقعوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر {فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} بالإسلام وهو رد على المعتزلة، فعندهم هم الذين ينقذون أنفسهم لا الله تعالى. والضمير للحفرة أو للنار أو للشفا، وأنث لإضافته إلى الحفرة. وشفا الحفرة: حرفها، ولامها واو فلهذا يثنى شفوان {كذلك} مثل ذلك البيان البليغ {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أي القرآن الذي فيه أمر ونهي ووعد ووعيد {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لتكونوا على رجاء الهداية أو لتهتدوا به إلى الصواب وما ينال به الثواب.
{وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} بما استحسنه الشرع والعقل {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عما استقبحه الشرع والعقل، أو المعروف ما وافق الكتاب والسنة. والمنكر ما خالفهما، أو المعروف الطاعة والمنكر المعاصي. والدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الأفعال والتروك وما عطف عليه خاص. و{من} للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، ولأنه لا يصلح له إلا من علم بالمعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته فإنه يبدأ بالسهل فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب قال الله تعالى: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا}. ثم قال: {فقاتلوا} [الحجرات: 9]. أو للتبيين أي وكونوا أمة تأمرون كقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف} {وأولئك هُمُ المفلحون} أي هم الأخصاء بالفلاح الكامل قال عليه السلام: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» وعن علي رضي الله عنه: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ} بالعداوة {واختلفوا} في الديانة وهم اليهود والنصارى فإنهم اختلفوا وكفر بعضهم بعضاً {مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ البينات} الموجبة للاتفاق على كلمة واحدة وهي كلمة الحق {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ونصب {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ} أي وجوه المؤمنين بالظرف وهو لهم أو بعظيم أو باذكروا {وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} أي وجوه الكافرين.
والبياض من النور والسواد من الظلمة {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} فيقال لهم {أَكْفَرْتُمْ} فحذف الفاء، والقول جميعاً للعلم به والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم {بَعْدَ إيمانكم} يوم الميثاق فيكون المراد به جميع الكفار وهو قول أبي وهو الظاهر، أو هم المرتدون أو المنافقون أي أكفرتم باطناً بعد إيمانكم ظاهراً، أو أهل الكتاب، وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد اعترافهم به قبل مجيئه {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله} ففي نعمته وهي الثواب المخلد. ثم استأنف فقال: {هُمْ فِيهَا خالدون} لا يظعنون عنها ولا يموتون. {تِلْكَ آيات الله} الواردة في الوعد والوعيد وغير ذلك {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ} ملتبسة {بالحق} والعدل من جزاء المحسن والمسيء {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين} أي لا يشاء أن يظلم هو عباده فيأخذ أحداً بغير جرم، أو يزيد في عقاب مجرم، أو ينقص من ثواب محسن {وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. {ترجع}. شامي وحمزة وعلي. كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماضٍ على سبيل الإبهام، ولا دليل فيه على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ومنه قوله.
{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} كأنه قيل: وجدتم خير أمة أو كنتم في علم الله أو في اللوح خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة موصوفين به {أُخْرِجَتْ} أظهرت {لِلنَّاسِ} اللام يتعلق ب {أخرجت} {تَأْمُرُونَ} كلام مستأنف بين به كونهم خير أمة كما تقول (زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم) بينت بالإطعام والإلباس وجه الكرم فيه {بالمعروف} بالإيمان وطاعة الرسول {وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن الكفر وكل محظور {وَتُؤْمِنُونَ بالله} وتدومون على الإيمان به أو لأن الواو لا تقتضي الترتيب {وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الكتاب} بمحمد عليه السلام {لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} لكان الإيمان خيراً لهم مما هم فيه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حباً للرياسة واستتباع العوام، ولو آمنوا لكان لهم من الرياسة والأتباع وحظوظ الدنيا ما هو خير مما آثروا دين الباطل لأجله، مع الفوز بما وعدوا على الإيمان به من إيتاء الأجر مرتين {مّنْهُمُ المؤمنون} كعبد الله بن سلام وأصحابه {وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} المتمردون في الكفر.
{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} إلا ضرراً مقتصراً على أذى بقول من طعن في الدين أو تهديد أو نحو ذلك {وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الأدبار} منهزمين ولا يضروكم بقتلٍ أو أسر {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} ثم لا يكون لهم نصر من أحد ولا يمنعون منكم، وفيه تثبيت لمن أسلم منهم لأنهم كانوا يؤذونهم بتوبيخهم وتهديدهم وهو ابتداء إخبار معطوف على جملة الشرط والجزاء وليس بمعطوف على {يولوكم} إذ لو كان معطوفاً عليه لقيل ثم لا ينصروا، وإنما استؤنف ليؤذن أن الله لا ينصرهم قاتلوا أم لم يقاتلوا، وتقدير الكلام: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا ثم أخبركم أنهم لا ينصرون.
و{ثم} للتراخي في المرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار.
{ضُرِبَتْ} ألزمت {عَلَيْهِمُ الذلة} أي على اليهود {أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ} وجدوا {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله} في محل النصب على الحال، والباء متعلق بمحذوف تقديره إلا معتصمين أو متمسكين بحبل من الله {وَحَبْلٍ مّنَ الناس} والحبل العهد والذمة، والمعنى ضربت عليهم الذلة في كل حال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عزّ لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية {وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله} استوجبوه {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة} الفقر عقوبة لهم على قولهم {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران: 181] أو خوف الفقر مع قيام اليسار {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بئايات الله وَيَقْتُلُونَ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} ذلك إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلة والمسكنة والبوء بغضب الله أي ذلك كائن بسبب كفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق. ثم قال: {ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} أي ذلك الكفر وذلك القتل كائن بسبب عصيانهم لله واعتدائهم لحدوده.


{لَيْسُواْ سَوَاءً} ليس أهل الكتاب مستوين {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} كلام مستأنف لبيان قوله {ليسوا سواء} كما وقع قوله {تَأْمُرُونَ بالمعروف} بياناً لقوله {كنتم خير أمة} {أمّةٌ قائمةٌ} جماعة مستقيمة عادلة من قولك (أقمت العود فقام) أي استقام وهم الذين أسلموا منهم {يَتْلُونَ ءايات الله} القرآن {ءَانَآءَ اليل} ساعاته واحدها (إنى) كمعي أو (إنو) كقنو أو (إنى) ك (نحى).
{وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يصلون. قيل: يريد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها. وقيل: عبر عن تهجدهم بتلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف} بالإيمان وسائر أبواب البر {وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} عن الكفر ومنهيات الشرع {ويسارعون فِى الخيرات} يبادرون إليها خشية الفوت. وقوله: {يتلون} و{يؤمنون} في محل الرفع صفتان لأمة أي أمة قائمة تالون مؤمنون. وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود من تلاوة آيات الله بالليل ساجدين ومن الإيمان بالله، لأن إيمانهم به كلا إيمان لإشراكهم به عزيراً وكفرهم ببعض الكتب والرسل ومن الإيمان باليوم الآخر لأنهم يصفونه بخلاف صفته، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنهم كانوا مداهنين، ومن المسارعة في الخيرات لأنهم كانوا متباطئين عنها غير راغبين فيها، والمسارعة في الخير فرط الرغبة فيه لأن من رغب في الأمر سارع بالقيام به {وأولئك} الموصوفون بما وصفوا به {مّنَ الصالحين} من المسلمين أو من جملة الصالحين الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ} بالياء فيهما كوفي غير أبي بكر وأبو عمرو. مخير غيرهم بالتاء. وعدي {يكفروه} إلى مفعولين وإن كان شكر وكفر لا يتعديان إلا إلى واحد تقول شكر النعمة وكفرها لتضمنه معنى الحرمان كأنه قيل: فلن تحرموه أي فلن تحرموا جزاءه {والله عَلِيمٌ بالمتقين} بشارة للمتقين بجزيل الثواب.
{إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مِّنَ الله شَيْئًا} أي من عذاب الله {وأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون *مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا} في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس أو ما يتقربون به إلى الله مع كفرهم {كَمَثَلِ رِيحٍ} كمثل مهلك ريح وهو الحرث أو مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح {فِيهَا صِرٌّ} برد شديد عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو مبتدأ وخبر في موضع جر صفة ل {ريح} مثل {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ} بالكفر {فَأَهْلَكَتْهُ} عقوبة على كفرهم {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بإهلاك حرثهم {ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} بارتكاب ما استحقوا به العقوبة، أو يكون الضمير للمنفقين أي وما ظلمهم الله بأن لم يقبل نفقاتهم ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها لائقة للقبول.
ونزل نهياً للمؤمنين عن مصافات المنافقين {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} بطانة الرجل ووليجته خصيصه وصفيه شبه ببطانة الثوب كما يقال (فلان شعاري) وفي الحديث: «الأنصار شعار والناس دثار» {مّن دُونِكُمْ} من دون أبناء جنسكم وهم المسلمون وهو صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} في موضع النصب صفة لبطانة يعني لا يقصرون في فساد دينكم يقال (ألا في الأمر يألو) إذا قصر فيه، والخبال الفساد. وانتصب {خبالاً} على التمييز أوعلى حذف في أي في خبالكم {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} أي عنتكم ف {ما} مصدرية. والعنت شدة الضرر والمشقة أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر وأبلغه، وهو مستأنف على وجه التعليل للنهي عن اتخاذهم بطانة كقوله {قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم} لأنهم لا يتمالكون مع ضبطهم أنفسهم أن ينفلت من ألسنتهم ما يعلم به بغضه للمسلمين {وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ} مع البغض لكم {أَكْبَرُ} مما بدا {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات} الدالة على وجوب الإخلاص في الدين وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} ما بين لكم.
{هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ} (ها) للتنبيه و(أنتم) مبتدأ و{أولاء} خبره أي أنتم أولاء الخاطئون في موالاة منافي أهل الكتاب {تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بيان لخطئهم في موالاتهم حيث يبذلون محبتهم لأهل البغضاء، أو أولاء موصول صلته {تحبونهم}. والواو في {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ} للحال وانتصابها من {لا يحبونكم} أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم. وقيل: الكتاب للجنس. {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا} أظهروا كلمة التوحيد {وَإِذَا خَلَوْاْ} فارقوكم أو خلا بعضهم ببعض {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} يوصف المغتاظ والنادم بعض الأنامل والبنان والإبهام {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} دعاء عليهم بأن يزداد غيظهم حتى يهلكوا به، والمراد بزيادة الغيظ زيادة ما يغيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ومالهم في ذلك من الذل والخزي {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} فهو يعلم ما في صدور المنافقين من الحنق والبغضاء وما يكون منهم في حال خلو بعضهم ببعض، وهو داخل في جملة المقول أي أخبرهم بما يسرونه من عضهم الأنامل غيظاً إذا خلوا وقل لهم: إن الله عليم بما هو أخفى مما تسرونه بينكم وهو مضمرات الصدور، فلا تظنوا أن شيئاً من أسراركم يخفى عليه أو خارج عن المقول، أي قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على ما يسرون فإني أعلم بما هو أخفى من ذلك وهو ما أضمروه في صدورهم {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ} رخاء وخصب وغنيمة ونصرة {تَسُؤْهُمْ} تحزنهم إصابتها {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ} أضداد ما ذكرنا.
والمس مستعار من الإصابة فكأن المعنى واحد، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} [التوبة: 50] {يَفْرَحُواْ بِهَا} بإصابتها {وَإِن تَصْبِرُواْ} على عداوتهم {وَتَتَّقُواْ} ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقه وتتقوا الله في اجتنابكم محارمه {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} مكرهم وكنتم في حفظ الله، وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدو بالصبر والتقوى. وقال الحكماء: إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك. {لاَ يَضُرُّكُمْ}: مكي وبصري ونافع من ضاره يضيره بمعنى ضره وهو واضح. والمشكل قراءة غيرهم لأنه جواب الشرط وجواب الشرط مجزوم فكان ينبغي أن يكون بفتح الراء كقراءة المفضل عن عاصم، إلا أن ضمة الراء لإتباع ضمة الضاد نحو (مد يا هذا) {إِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ} بالتاء: سهل أي من الصبر والتقوى وغيرهما {مُحِيطٌ} ففاعل بكم ما أنتم أهله. وبالياء: غيره أي أنه عالم بما يعملون في عداوتكم فمعاقبهم عليه.
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} واذكر يا محمد إذ خرجت غدوة من أهلك بالمدينة، والمراد غدوة من حجرة عائشة رضي الله عنها إلى أحد {تُبَوّئ المؤمنين} تنزلهم وهو حال {مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} مواطن ومواقف من الميمنة والميسرة والقلب والجناحين والساقة. و{للقتال} يتعلق ب {تبوئ} {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم. رُوي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا عبد الله بن أبيّ فاستشاره فقال: أقم بالمدينة فما خرجنا على عدو قط إلا أصاب منا، وما دخلوا علينا إلا أصبنا منهم. فقال عليه السلام: «إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأولتها خيراً، ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولتها هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة، فلم يزل به قوم ينشطون في الشهادة حتى لبس لأمته ثم ندموا» فقالوا: الأمر إليك يا رسول الله فقال عليه السلام: «لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل» فخرج بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوال {إِذْ هَمَّتْ} بدل من {إذ غدوت} أو عمل فيه معنى {عليم} {طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ} خيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس. وكان عليه السلام خرج إلى أحد في ألف، والمشركون في ثلاثة آلاف، ووعدهم الفتح إن صبروا فانخذل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال: علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فهم الحيان باتباعه فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله {أَن تَفْشَلاَ} أي بأن تفشلا أي بأن تجبنا وتضعفا والفشل الجبن والخور {والله وَلِيُّهُمَا} محبهما أو ناصرهما أو متولي أمرهما فما لهما تفشلان ولا تتوكلان على الله {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أمرهم بأن لا يتوكلوا إلا عليه ولا يفوضوا أمورهم إلا إليه.
قال جابر: والله ما يسرنا أنا لم نهم بالذي هممنا به وقد أخبرنا الله بأنه ولينا. ثم ذكرهم ما يوجب عليهم التوكل مما يسر لهم من الفتح يوم بدر وهم في حال قلة وذلة فقال:

1 | 2 | 3 | 4 | 5